فصل: من لطائف القشيري في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولو سألتَ هذه الجوارح: لم شهدتِ عليَّ وأنت التي فعلت؟ لقالت لك: فعلنا لأننا كنا على مرادك مقهورين لك، إنما يوم ننحلّ عن إرادتك ونخرج عن قهرك، فلن نقول إلا الحق.
ثم يقول الحق سبحانه: {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ الله دِينَهُمُ الحق}.
قوله: {يَوْمَئِذٍ} [النور: 25] أي: يوم أنْ تحدث هذه الشهادة، وهو يوم القيامة {يُوَفِّيهِمُ الله دِينَهُمُ الحق} [النور: 25] الدين: يُطلَق على منهج الله لهداية الخَلْق، ويُطلق على يوم القيامة، ويُطلَق على الجزاء.
فالمعنى: يوفيهم الجزاء الذي يستحقونه {الحق} [النور: 25] أي: العدل الذي لا ظلمَ فيه ولا تغيير، فليس الجزاء جُزَافًا، إنما جزاء بالحق؛ لأنه لم يحدث منهم توبة، ولا تجديد إيمان؛ لذلك لابد أنْ يقع بهم ما حذرناهم منه وأخبرناهم به من العقاب، وليس هناك إله آخر يُغيِّر هذا الحكم أو يؤخره عنهم.
لذلك بعد أنْ قال تعالى: {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَآ أغنى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سيصلى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ وامرأته حَمَّالَةَ الحطب فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ} [المسد: 1- 5].
قال بعدها: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ الله الصمد لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 1- 4].
يعني: ليس هناك إله آخر يُغيِّر هذا الكلام، فما قُلْته سيحدث لا محالةَ.
ثم يقول تعالى: {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ الله هُوَ الحق المبين} [النور: 25] هو الشيء الثابت الذي لا يتغير، فكلُّ ما عدا الله تعالى مُتغير، إذن: فالله بكل صفات الكمال فيه سبحانه لا تغييرَ فيه، لذلك يقولون: إن الله تعالى لا يتغير من أجلنا، ولكن يجب أنْ نتغير نحن من أجل الله، كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حتى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11].
فالله هو الحقُّ الثابت، هذا بالبراهين العقلية وبالواقع، وقد عرفنا الكثير من البراهين العقلية، أما الواقع فإلى الآن لم يظهر مَنْ يقول أنا الله ويدَّعي هذا الكون لنفسه، وصاحب الدعوى تثبت له إنْ لم يَقُمْ عليها معارض ومعنى {المبين} [النور: 25] الواضح الظاهر الذي تشمل أحقيتُه الوجودَ كله. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23)}.
أخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات} قال: نزلت في عائشة خاصة.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والطبراني عن خصيف قال: قلت لسعيد بن جبير أيما أشد: الزنا أم القذف؟ قال: الزنا. قلت: إن الله يقول: {إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات} قال: إنما أنزل هذا في شأن عائشة خاصة.
وأخرج الطبراني عن الضحاك قال: نزلت هذه الآية في عائشة خاصة {إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات}.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن الضحاك {إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات} قال: إنما عني بهذا نساء النبي صلى الله عليه وسلم خاصة.
وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن أبي الجوزاء {إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات} قال: هذه لأمهات المؤمنين خاصة.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سلمة بن نبيط {إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات} قال: هن نساء النبي صلى الله عليه وسلم.
وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس. أنه قرأ سورة النور ففسرها، فلما أتى على هذه الآية {إن الذين يرمون المحصنات الغافلات} قال: هذه في عائشة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يجعل لمن فعل ذلك توبة، وجعل لمن رمى امرأة من المؤمنات من غير أزواج النبي صلى الله عليه وسلم التوبة، ثم قرأ {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء} إلى قوله: {إلا الذين تابوا} ولم يجعل لمن قذف امرأة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم توبة، ثم تلا هذه الآية {لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم} فهم بعض القوم أن يقوم إلى ابن عباس، فيقبل رأسه لحسن ما فسر.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن عائشة قالت: رميت بما رميت به وأنا غافلة، فبلغني بعد ذلك: فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عندي جالس، إذ أوحي إليه وهو جالس، ثم استوى، فمسح على وجهه وقال: يا عائشة ابشري فقلت: بحمد الله لا بحمدك فقرأ {إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات} حتى بلغ {أولئك مبرؤون مما يقولون}.
{يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24)}.
أخرج أبو يعلى وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كان يوم القيامة عرف الكافر بعمله فجحد وخاصم فيقال: هؤلاء جيرانك يشهدون عليك فيقول: كذبوا فيقال: أهلك وعشيرتك فيقول: كذبوا فيقال: احلفوا فيحلفون، ثم يصمتهم الله وتشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم، ثم يدخلهم النار».
وأخرج ابن مردويه عن أبي أيوب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أول من يختصم يوم القيامة الرجل وامرأته، فما ينطق لسانها ولسانه ولكن يداها ورجلاها، يشهدان عليها بما كانت تغتاله، أو توليه أو كلمة نحوها، ويداه ورجلاه يشهدون عليه بما كان يوليها، ثم يدعى الرجل وخوله فمثل ذلك».
وأخرج أحمد وابن مردويه عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنكم تدعون مقدمة أفواهكم بالفدام، وإن أول ما يبين عن أحدكم فرجه وكفه».
وأخرج ابن مردويه عن أبي امامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أول ما ينطق من ابن آدم يوم القيامة فخذه».
وأخرج ابن مردويه عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أول ما يستنطق من ابن آدم جوارحه في محاقير عمله. فيقول وعزتك يا رب إن عندي المضرات العظام».
وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن مردويه عن أبي أمامة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إني لأعلم آخر رجل من أمتي يجوز الصراط، رجل يتلوى على الصراط كالغلام حين يضربه أبوه تزلّ يده مرة فتصيبها النار، وتزل رجله مرة فتصيبها النار، فتقول له الملائكة: أرأيت إن بعثك الله من مقامك هذا فمشيت سويًا أتخبرنا بكل عمل عملته؟ فيقول: أي وعزته لا أكتمكم من عملي شيئًا فيقولون له: قم فامش سويًا. فيقوم فيمشي حتى يجاوز الصراط فيقولون له: اخبرنا باعمالك التي عملت فيقول في نفسه: إن أخبرتهم بما عملت ردوني إلى مكاني فيقول: لا وعزته ما عملت ذنبًا قط فيقولون: إن لنا عليك بينة، فيلتفت يمينًا وشمالًا هل يرى من الآدميين ممن كان يشهد في الدنيا أحد. فلا يراه فيقول: هاتوا بينتكم فيختم الله على فيه، فتنطق يداه ورجلاه وجلده بعمله فيقول: أي وعزتك لقد عملتها وإن عندي العظام العظائم المضرات فيقول: اذهب فقد غفرتها لك».
وأخرج ابن مردويه وابن جرير عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أول عظم يتكلم من الإِنسان بعد أن يختم على فيه فخذه من جانبه الأيسر».
{يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)}.
أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق} قال: حسابهم، وكل شيء في القرآن الدين فهو الحساب.
وأخرج عبد بن حميد والطبراني عن قتادة، {يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق} أي أعمالهم الحق لحقهم، وأهل الباطل لباطلهم {ويعلمون أن الله هو الحق المبين}.
وأخرج ابن جرير عن مجاهد أنه قرأها {الحق} بالرفع.
وأخرج الطبراني وابن مردويه عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: {يومئذ يوفيهم الله الحق دينهم}. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
قوله: {يَوْمَ تَشْهَدُ}:
ناصبُه الاستقرارُ الذي تَعَلَّق به {لهم}. وقيل: بل ناصبُه {عذابُ}. ورُدَّ بأنه مصدرٌ موصوفٌ وأجيب: بأنَّ الظرفَ يُتَّسَعُ فيه ما لا يُتَّسَعُ في غيرِه. وقرأ الأخَوان {يَشْهَدُ} بالياء من تحتُ؛ لأنَّ التأنيثَ مجازيٌّ، وقد وقعَ الفَصْلُ. والباقون بالتاءِ مراعاةً للَّفظِ.
{يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)}.
والتنوينُ في {إذ} عوضٌ من الجملة، تقديرُه: يوم إذ تشهد. وقد تقدَّمَ خلافُ الأخفش فيه، وقرأ زيد بن علي {يُوْفِيْهِمْ} مخففًا مِنْ أوفى. وقرأ العامَّةُ بنصب {الحق} نعتًا ل {دينَهم} وأبو حيوة وأبو رَوْق ومجاهدٌ وهي قراءةُ ابنِ مسعودٍ برفعِه نعتًا لله تعالى. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23)}.
بالغ في توعده لهم حيث ذكر لفظ اللعنة في شأنهم.
ووَصَفَ المحصنات بالغفلة: أي بالغفلة عما يُنْسَبْنَ إليه؛ فليس الوصف على جهة الذمِّ، ولكن لبيان تباعدهن عمَّا قيل فيهن.
واستحقاقُ القّذَفَةِ لِلْعَنةِ- في الدنيا والآخرة- يدل على أنه لشؤم زلتهم تتغير عواقبهم، فيخرجون من الدنيا لا على الإسلام.
{يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24)}.
تشهد عليهم أعضاؤهم بما عملوا من غير اختيار منهم، ثم كما تشهد بعض أعضائهم عليهم تشهد بعض أعضائهم لهم، فالعين كما تشهد: أنه نَظَر بي، تشهد بأنه بكى بي... وكذلك سائر الأعضاء.
ويقال شهادةُ الأعضاء في القيامة مُؤجَّلَةٌ، وشهادتها في المحبة اليومَ مُعَجَّلة؛ من صُفْرَةِ الوجهِ إذا بدا المحبوب، وشحوبِ اللون، ونحافةِ الجسم، وانسكابِ الدموع، وخفقان القلب، وغير ذلك.
{يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)}.
يجازيهم على قَدْر استحقاقهم؛ للعابدين بالجِنان والمثوبة على توفيةِ أعمالِهم، وللعارفين بالوصلة والقربة على تصفيةِ أحوالِهم؛ فهؤلاء لهم عُلوُّ الدرجات وهؤلاء لهم الأُنس بعزيز المشاهدات ودوام المناجاة.
{وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الحَقُّ الْمُبِينُ}: فتصيرُ المعرفةُ ضروريةً؛ فيجدون المُعافَاةَ من النَّظَر وتَذَكُّرهِ، ويستريح القلبُ من وَصْفِيْ تَرَدُّدِهِ وتَغَيُّرِه: لاستغنائه ببصائره عن تَبَصُّرِهِ.
ويقال لا يشهدون غدًا إلا الحقَّ؛ فهم قائمونَ بالحق للحق مع الحق، يبيِّن لهم أسرار التوحيد وحقائقه، ويكون القائم عنهم، والآخذَ لهم منهم من غير أَنْ يُرَدَّهم إليهم. اهـ.

.قال صاحب روح البيان:

وفي الآية أمور:
منها بيان جواز اللعنة على من كان من أهلها.
قال الإمام الغزالي رحمه الله الصفات المقتضية للعن ثلاث الكفر والبدعة والفسق وله في كل واحدة ثلاث مراتب الأولى اللعن بالوصف الأعم كقولك لعنة الله على الكافرين أو المبتدعة أو الفسقة والثانية اللعن بأوصاف أخص منه كقولك لعنة الله على اليهود والنصارى أو على القدرية والخوارج والروافض أو على الزناة والظلمة وأكلي الربا وكل ذلك جائز ولكن في لعن بعض أصناف المبتدعة خطر لأن معرفة البدعة غامضة فما لم يرد فيه لفظ مأثور ينبغي أن يمنع منه العوام لأن ذلك يستدعي المعارضة بمثله ويثير نزاعًا وفسادًا بين الناس والثالثة اللعن على الشخص فينظر فيه أن كان ممن ثبت كفره شرعًا فيجوز لعنه إن لم يكن فيه أذى على مسلم كقولك لعنة الله على النمرود وفرعون وأبي جهل لأنه ثبت أن هؤلاء ماتوا على الكفر وعرف ذلك شرعًا وأن كان ممن لم يثبت حال خاتمته بعد كقولك زيد لعنه الله وهو يهودي أو فاسق فهذا فيه خطر لأنه ربما يسلم أو يتوب فيموت مقربًا عند الله تعالى فكيف يحكم بكونه ملعونًا.
ومنها شهادة الأعضاء وذلك بإنطاق الله تعالى فكما تشهد على المذنبين تشهد للمطيعين بطاعتهم فاللسان يشهد على الإقرار وقراءة القرآن واليد تشهد بأخذ المصحف والرجل تشهد بالمشي إلى المسجد والعين تشهد بالبكاء والأذن تشهد باستماع كلام الله.
ويقال شهادة الأعضاء في القيامة مؤجلة وشهادتها في المحبة اليوم معجلة من صفرة الوجه وتغير اللون ونحافة الجسم وانسكاب الدموع وخفقان القلب وغير ذلك:
ومنها أن المجازاة بقدر الاستحقاق فللفاسقين بالقطيعة والنيران وللصالحين بالدرجات وللعارفين بالوصلة والقربة ورؤية الرحمن. اهـ.